اثار العولمة المتوحشة على اخلاق وسلوكيات الانسان

لا تقتصر العولمة على تعميم القيم الاقتصادية وأنظمتها, بل إنها أخذت فعلا تعمم القيم الثقافية التي تكون لب حياة المجتمع, وبخاصة القيم الأخلاقية والدينية منها, إذ أن القيم الأخلاقية والدينية وما تؤدي إليه من سلوك فردي واجتماعي هي الأرضية التي تقوم عليها أنماط السلوك الاجتماعي, وهو ما يمثل الحياة الثقافية في مجملها, باعتبار أن الثقافة طريقة لرؤية العالم والتعبير عنه

والثقافة التي تملك وسائل الاتصال القوية ووسائل صناعة الثقافة والرقابة عليها هي التي أخذت تهيمن اليوم عن طريق القنوات الفضائية والإنترنت, مما يؤدي إلى غلبة نماذج معينة من القيم الأخلاقية وأنماط معينة من السلوك والذوق, وخاصة لدى الأطفال الذين لم تتكون لديهم ملكة النقد, والحصانة الذاتية, فيقعون فريسة سهلة لما يعرض عليهم من صور مؤثرة, وأغان ورقص وأزياء, وتناول الأطعمة والأشربة, وغيرها من أنماط الاستهلاك عن طريق الإعلانات المكررة والصور الجميلة المؤثرة, مما يؤثر تأثيرا واضحا على المعتقدات والقيم, وبما يعرض بقوة وبمهارة من قيم مجتمع أجنبي, وتصرفات غير مقبولة في مجتمعاتنا نحن المسلمين, بما في ذلك التمرد على الأسرة وتفكيك علاقاتها المتماسكة, ونشر ما يتعارض مع مرجعياتنا وقيمنا من سلوك جنسي فاضح واستهلاك للمحرمات وما إلى ذلك.

إن الكلمة المؤثرة قديما فقدت كثيرا من تأثيرها, وحلت محلها الصورة التي لا يقف حاجز اللغة أمام تأثيرها, فالذي لا يفهم اللغات الأجنبية يكتفي بالصورة المعبرة.

ربما أدى هذا الاكتساح للقيم, وهدم العلاقات الأسرية, والهجوم على المرجعيات والقيم الثقافية إلى رد فعل, يتمثل في تفجير أزمة الهوية فيرجع الناس إلى التقاليد القديمة والعصبيات القبلية أو القومية الضيقة, التي تؤدي إلى سلوكيات ربما كانت أسوأ مثل التطهير العرقي, أو يحتمون بثقافتهم الأصلية بطريقة تؤدي إلى جمودها, وعدم تفتحها على الثقافات الأخرى, وقد نشاهد جماعة من المهاجرين الأتراك مثلا في ألمانيا يقتصرون على مشاهدة الأفلام التركية وهم مقيمون في ألمانيا, ينقلون هويتهم معهم ولا تتقطع الصلة بينهم وبين مجتمعهم الأصلي, وكذلك بفعل المهاجرون المسلمون في فرنسا, والأكراد في ألمانيا, وقد يؤدي ذلك أيضا إلى ظهور الأقليات العرقية وسلوكها العنيف مما يهدد السيادة الوطنية لبلد ما من البلدان, ويمزق وحدتها الثقافية السائدة, وعقيدتها الدينية.

وهذا التهديد الثقافي والديني قد يؤدي أيضا إلى فرار الناس إلى الدين, يلوذون به, ويحتمون بعقائدهم لدرجة التعصب والعنف والقتال, لأنهم يشعرون أنهم مهددون في أعز شئ عندهم. ولشدة خوفهم من الاستئصال والانسلاخ قسرا عن معتقداتهم, لأن الصراع يسهل أن ينشأ عندما يشعر الإنسان أنه مهدد في جانب من ذاتيته.

وقد تمت دراسات ميدانية في مجال تأثير الأقمار الصناعية على القيم الثقافية ومنها الأخلاقية والدينية على عدد من البلدان منها بالنسبة للعالم الإسلامي : السعودية واليمن والأردن ومصر وتونس, ومنها بلدان أخرى خارج العالم الإسلامي.

من هذه الدراسات دراسة ناصر الحميدي الذي لاحظ أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى, مثل: الترويج للإباحية, والاختلاط وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية, والترويج للسلع الأجنبية وخاصة بين النساء والأطفال, وهذا من الجانب الاقتصادي.

ومما أشارت إليه الدراسة التأثير على الجوانب العقدية والثقافية, والتأثير على الجوانب التعليمية والسلوكية من التشتت بين ما يتعلمه المرء في المؤسسة التربوية, وما يشاهده من برامج مناقضة لذلك, وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة, وكذلك التأثير على الروابط الأسرية.

وقام اتحاد الإذاعات العربية بدراسة في هذا المجال ومن نتائج ذلك أن المشاهدة الأسرية غير ممكنة في أحوال كثيرة, وغير مقبولة لوجود محاذير أخلاقية, وكذلك ارتفاع نسبة الإعراض عن مشاهدة البرامج الوطنية بحثا عن المتعة والترفيه, وترى العينة أنه بالرغم من وجود تباعد بين المشاهد والمضمون الإعلامي الأجنبي الذي لا يتلاءم مع تعاليم الإسلام ولا مع الواقع الاجتماعي العربي إلا أنه لا يخلو من تأثير.

ومن الدراسات الميدانية التي تمت لمعرفة تأثير المواد التلفزيونية الأمريكية على الشباب الكوري الجنوبي قام بها( Morgan و Kang) ومن نتائج هذه الدراسة أن هذه المواد أدت إلى تأثير بالغ على القيم التقليدية الكورية, فأصبحت الفتيات الكويات أكثر تحررا من القيم الأسرية والأخلاقية, ويعتقدون أنه لا حرج من الممارسة الجنسية خارج الزواج, وأن ذلك من قبيل الحرية الجنسية, وأصبحن يرتدين الملابس الأمريكية, ويحتقرن العقيدة الكونفوشيوسية.

أما الفتيان فقد كان الأمر على العكس, إذ أصبحوا أكثر محافظة على التقاليد الكورية وأكثر كراهية للولايات المتحدة, وبين الباحثان أن هذا التعارض قد يؤدي إلى رد فعل معاكس مناهض للثقافة الأجنبية.

كما أن شبابا آخرين في دراسة أخرى أصبحوا يدمنون المخدرات هربا من واقعهم بالمقارنة مع الواقع الأمريكي الذي يشاهدونه. ومن نتائج دراسة أخرى تمت على أطفال في أستراليا أن هؤلاء الأطفال أصبحوا أكثر عدوانية وميلا إلى العنف في معاملاتهم, ويرون العالم رؤية تجعله مليئا بالعنف والجريمة من كثرة مشاهدتهم لمواد التلفزة الأمريكية. وهذه النتائج تبين أن هذا التأثير يؤدي إلى فقدان الانتماء. وإلى أزمة أخلاقية وإلى غربة ثقافية, كما يؤدي إلى وجود فئة من النخبة تعيش منقطعة الجذور وتزعم أنها قيادة فكرية, كما تبقى أخرى ذات ثقافة شعبية غريبة عن عصرها وعاجزة عن تجديد ثقافتها وتوسيع أفقها أخلاقيا ودينيا, الأمر الذي يفجر صراعا اجتماعيا, يعوق المجتمع عن التخلص من التخلف, فعقول بعض المثقفين لا تعترف إلا بالنمط الغربي في الحياة والفكر, وعقول آخرين لا تعترف إلا بالتقاليد التي ربما فاتها الزمن, ولم تعد صالحة لعصرنا هذا, وينتج عن ذلك, أزمة نفسية أخلاقية وعدم استقرارنفسي, ويولد ذلك كله صراعا مريرا داخل المجتمع الواحد.

ولا شك في أن الثفافة القوية في وسائلها ومضامينها تغير المواقف وتشكل رأيا عاما جديدا, وتقوم أحيانا على تزوير الحقائق, وينتج عن ذلك تغييرات عميقة في البنى الاجتماعية وقيمها والتمرد عليها, وتبني ثقافة الاستهلاك للأشياء والأفكار والقيم.

ويؤخذ على العولمة وعلى هذا الذي يدعونه بالنظام العالمي الجديد أنه يخلو من أي منهج أخلاقي, ولذلك لجأ الفرنسيون إلى وضع الثقافة في خانة الاستثناء, لأنهم تنبهوا إلى أن قوة الإنتاج الثقافي الأمريكي تؤدي إلى التغيير التدريجي في معايير السلوك وأنماط الحياة, بالإضالة إلى ذلك, فإن الحداثة الغربية أخفقت في مجال القيم الأخلاقية التي بنيت على المنفعة, أو على مجرد الرغبة أو مجرد العقل, وأبعدت القيم الأخلاقية عن العلم وعن الدين, وبذلك أصبحت العولمة في انفلات عن قيم تحكمها وعن ضوابط إنسانية تحدد سلوكها, ولذلك فإننا نرى فلاسفة الغرب, ممن يسمون بفلاسفة ما بعد الحداثة, يهاجمون العقل الذي تصورته الحداثة أنه هو الحل السحري لمشاكل الإنسان, وأن العلم هو مفتاح السعادة, وإن انقطع عن القيم, وانفلت منها, ويعتبر هذا الانفلات من القيم الأخلاقية والدينية عندهم تحررا, فطالبوا بحرية الجنسية المثلية وغيرها من الموبقات.

ومما جاء في التقرير العالمي الخاص بالصحة النفسية World Mental Report إن الدراسة المعمقة لمشاكل الصحة النفسية التي أشار إليها مؤلفوا هذا التقرير تبين أن المشاكل الاجتماعية والاضطرابات النفسية هي مشاكل كونية, ونسبة كبيرة منها لا تنجو من تأثير سياق العولمة المعقد, لأن وسائل الاتصال الراهنة بقوتها تهدم المرجعيات الثقافية العريقة التي عاشت عليها المجتمعات البشرية وتقوض كثيرا من أسسها, لأن منطق العولمة منطق الربح والمال, والنجاح في الأسواق كلها, أسواق الاقتصاد, وأسواق الثقافة أيضا.

إن العلماء اليوم يجب أن يطرحوا مسائل ذات صبغة أخلاقية وخاصة في مجال البيولوجيا والهندسة الوراثية, حيث نشهد تطورا سريعا سواء في مجال العلم النظري أو البحث الأساسي في مجال البحث التطبيقي, فمنذ أربعين عاما تقريبا كان أغلب الباحثين من العلماء يعتبرون القيم مسألة لا تعنيهم, وأصبح العلماء اليوم لا يستطيعون أن يتجنبوا البحث فيما يتعلق بنتائج أعمالهم العملية, فيجب إذن الاعتراف بضرورة أن تحد سلطة التكنولوجيا بسلطة الأخلاق, كما صرح بذلك المدير العام السابق لليونسكو Frdrik Mayor, وكما قال الكاتب الفرنسي Rabelai : ( العلم بلا ضمير ليس إلا خراب النفس ) (Science sans conscience n ‘est que ruine de I ‘ame ) إن الباحثين الأمريكان يتساءلون عن نوع الإنسان الذي يريدون إنتاجه, وأدت البحوث المتقدمة في البيولوجيا إلى محاولات التحكم الفيزيقي في العقل البشري, وإلى محاولة التغيير الأساسي بشروط بداية وجود الإنسان ونهايته.

وإذا كانت بداية الاستنساخ كانت في الفئران في هواي Hawai وفي الخرفان بنيوزلندا واليابان, وفي المعز في الولايات المتحدة وكندا, فإن مجلة محترمة جدية علميا وهي المجلة البريطانية The Lancet كتبت في سنة 1998م أنه بات من الضروري صنع كائنات بشرية عن طريق الاستنساخ, ودعت الأوساط الطبية إلى قبول ذلك, وقام Paulin Jose أحد الكبار المهتمين بدراسة المخ البشري يقول:( ليست المشكلة الفلسفية الرئيسية اليوم هي: ما هو الإنسان؟ ولكن ما هو نوع الإنسان الذي يجب علينا إنتاجه؟.) فأين كرامة الإنسان؟ وأين الشعور بالأخطار التي يمكن أن تحدث للجنس البشري, والمفاجئات التي يمكن أن تؤدي إلى إنتاج أناس لا عهد للإنسانية بهم في التاريخ, مما ينحرف بالطبيعة البشرية إلى كائنات أخطر ما تكون, وأكثر ما تكون خروجا عن سمات هذا الكائن الذي نعرفه, وهو الإنسان ذو الطابع الأخلاقي الفطري, وذو الكرامة التي منحه الله سبحانه وتعالى إياها في وجوده وفطرته الأخلاقية باعتباره غاية في ذاته لا أنه شئ, من الأشياء, أو وسيلة إلى غيره يمكن أن يتلاعب بها اللاعبون في مجال البيولوجيا أو العلم المنفلت من أي معيار أخلاقي أو قانوني أو ديني.

لا شك أن ابن خلدون قد تفطن لأهمية القيم الخلقية في حياة الإنسان ولذلك قال: (إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة).

ويتوقع من العولمة إذا تمكنت في سلطانها أن تمسخ الإنسانية, وأن تقولبها في نمط ثقافي يفقد ما في الحضارات الإنسانية وقيمها من غنى وتنوع, ونحن نشاهد كيف يشجع الغرب الذين يتحدون المسلمين في عقائدهم مثلما فعلوا مع نسرين البنجلاديشية التي تدعو إلى تغيير القرآن وتصف الدين بأنه ظلامي, وكذلك سلمان رشدي, الذي هاجم القرآن ومقدسات الإسلام علنا, فمن حق المسلمين أن تحترم عقائدهم كما تحترم عقائد غيرهم. إن النظم الأخلاقية والديانات تقع تحت تأثير العولمة اليوم فتقود إلى ضعف البنى الاجتماعية والأسرية فيصيبها الاضطراب والتفكك. إن جماعة من المفكرين في ماليزيا عارضوا القيم الغربية, ونظروا إلى القيم الآسيوية على أنها بديل بهذه القيم الغربية, ومن هؤلاء إبراهيم أنور ومظفر شندرا, كما يمكن للأفارقة أن ينادوا بقيم أخرى لهم معارضة للعولمة الغربية, وقد حاول ذلك بولان هونتوندجي Paulin Houtondji في مقال له يدعو فيه إلى مقاومة العولمة الثانية, ومن قبله فرانس فانون 1925-1960م الذي دعا إلى تصفية الثقافة الزنجية وغيرها من آثار الاستعمار, وهو يعتبر من النخبة الإفريقية الآسيوية. إن الظلم الاقتصادي في العالم وراء كثير من التوترات التي تعاني منها الإنسانية, وإذا كان عدد سكان البلدان النامية حوالي (4.5 مليار) فإن الثلث منها على الأقل لا يحصل على المياه الصالحة للشرب, والخمس (5/1) من الأطفال لا يتمتع بالسعرات الحرارية الكافية ولا بالبروتينات الضرورية, بل إن مليارين من البشر أي ثلث (3/1) الإنسانية يعاني من فقر الدم, ويمكن القول بأن ما تستهلكه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من الروائح والعطور, يكفي لسد حاجات التغذية الأساسية والصحة للسكان الفقراء في العالم, وذلك- حسب تقدير الخبراء – لا يتجاوز (13 مليار دولار) وهو المبلغ الذي تستهلكه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من العطور.

إن ارتفاع مستوى الحياة في هذه البلدان قاد إلى هجران كثير من القيم التي تجعل المجتمع متماسكا, فأدى ذلك إلى الحصر Stress والشعور بالوحدة وما إلى ذلك من الأمراض النفسية والجسمية.

إن العالم – كما يقول الأستاذ طه عبد الرحمن – مقبل على تحول أخلاقي جذري بتأثير التحولات المتلاحقة التي يشهدها في الحياة الفردية والاجتماعية, لأن هذه التغييرات تفرز ضرورة معايير أخلاقية جديدة, ويأمل أن يتجه قادة العالم إلى إيجاد نظام أخلاقي عالمي جديد, كما وضعوا نظاما تجاريا عالميا, حتى لا تنحرف العولمة إلى الظلم والعدوان على الأمم الضعيفة اقتصاديا وحضاريا. وبما أن الإسلام يتجه نحو العالمية منذ نزوله, ويحث على التعايش والسلم, وعايش فعلا في تاريخه مختلف الديانات وتسامح معها تسامحا واضحا عند المؤرخين وغيرهم, فإنه مؤهل بتعاليمه الأخلاقية أن يشارك في وضع أخلاق جديدة لهذه العولمة المنفلتة لحد الآن, وهو يعترف بالقيم المشتركة بين الحضارات, ولا شك أن الدعوة إلى الفهم المتبادل للقيم الحضارية الشرقية والغربية من سمات الإسلام الرئيسية, فقد دعا إلى الحوار مع ديانات أخرى, منذ نزول القرآن, ونادى بالحوار بين الأديان وأزاح الغبار عما طرأ على بعض الديانات من الخرافات والتحريفات, ودعا إلى الأصل المشترك بينها جميعا.

( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) { آل عمران: 64 }, فعلى المسلم اليوم أن يحدد رسالته نحو العولمة ويبني موقفه على الفهم الصحيح للإسلام, وأن ميزانه ميزان أخلاقي ( التقوى ) حين يتحاور ويتعاون مع البشرية في العالم إذ ألغى ميزان العصبية واللون, والطبقة والثروة, وجعل عمارة الكون والإحسان إلى العالمين من مبادئه ومقاصده, وكذلك المشاركة في توفير الخير للناس, وحفظ الحقوق, ومنع الظلم وإن كان مع عدو أو مخالف في الدين, ( ..ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .. ) { المائدة : 8 } وعد القرآن اختلاف اللغات والألوان – واختلاف اللغات هو أيضا اختلاف الثقافات – فهذا المعنى الأخلاقي القرآني إذا راعيناه فإن العولمة لا تصبح غابة يأكل القوي فيها الضعيف, ولا تمحو الثقافة التي أتيحت لها عوامل القوة ثقافة الآخرين وقيمهم, مما يدعو إلى نشوب الحروب والمقاومة. وإذا كان يتبع العولمة بقصد أو بغير قصد إشاعة الفساد والانحلال, وبيع الشهوة وحمى الاستهلاك, فإن من شأن المسلم أن يقاوم هذه العوامل من الفتنة ويعمل جهده أن تسود القيم التي تحفظ على الإنسان كرامته, ولا شك أن العولمة يمكن أن تكون لها جوانب إيجابية مثل تداول التقنية والمعرفة المتاحة, فيمكن لشباب الشعوب النامية أن يستفيد من ذلك كله لرفع شأن شعوبهم ومستواهم الثقافي والحضاري, ومنع إطلاق الوحش الذي يكمن في الإنسان ليحطم الكوابح الأخلاقية إذا غاب الدين, واختفت القيم, وسادت موجات العنف, والحروب, والفساد الاجتماعي.

إن بعض القيم كالحرية والأخوة والعدل هي قيم متعالية إنسانية, لا يمكن أن يتنكر لها الإنسان إذا سلمت فطرته من الفساد. إن 80% تقريبا من سكان الأرض يتبعون الدين, بالرغم من الشك الذي يسود بعض البلدان, والدين يدعو إلى الرحمة. بل إن الإسلام جاء رحمة للعالمين, كما وردت أيضا عدة مرات كلمة الرحمة في الكتاب المقدس, ولكن الناس لا يراعون هذا المعنى, فترى النزاع بين الهندوس والمسلمين في الهند, بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا, وبين المسلمين والنصارى في البلقان والسودان, ونيجيريا وإندونيسيا, إن ذلك يرجع إلى عداوات تاريخية قائمة على سوء الفهم, وعدم التسامح والانفتاح على الآخر, بالإضافة إلى العوامل السياسية والاقتصادية والعرقية الأجنبية التي تغذي بعض هذه الصراعات, فالروس مثلا يساندون الصرب, والألمان يؤيدون الكروات, في حين أن البلاد الإسلامية تساعد المسلمين بما في ذلك تركيا. ويشير جيمس ميتلمان أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بواشنطن إلى أن العولمة تنطوي على إمكانات الضرر بالأديان, وإفادتها في الوقت نفسه, فالعولمة في جانبها الإعلامي والثقافي وترويجها للأنماط الاستهلاكية والتحلل من القيم تتحدى المنظومات الدينية والأخلاقية وتضعف إقبال الجيل الجديد عليها, ولكن يمكن القول بأن الدين يستفيد من وسائل الاتصال المعاصرة الفعالة بتوظيفها في نشر الرسالة الدينية والدعوة إليها, ولذلك فإنه بالرغم من هذه العوامل المشار إليها التي تتحدى القيم الدينية والأخلاقية, فإن الأديان والدعوة الأخلاقية التي تقاوم الثقافة الاستهلاكية يمكن القول بأنها سائرة في طريق اكتساب أنصار في العالم حتى سكان الولايات المتحدة.

وينبغي أن يشار هنا إلى الوجود الإسلامي في القارة الأوروبية الذي يصل إلى حوالي ( 15 مليونا ) منها خمسة ملايين في فرنسا وحدها, وما يعانيه المهاجرون المسلمون من إشكالية الهوية, ذلك أن موجات العنصرية تتزايد ضد هذه الجاليات المسلمة, كما أن احتماءهم بهويتهم واكتشاف جديد لهويتهم لأنها أصبحت مهددة, أدى هذا إلى شعور حاد بالقلق وخاصة لدى الآباء خوفا على هوية أبنائهم من الذوبان, ويتصور بعض الباحثين أن الإسلام يمثل عاملا مقاوما لتحدي العولمة.

فضلا عن الجماعات الغربية المتعددة المقاومة لهذه العولمة, ومن خلال التحليل الواقعي للتاريخ, وهذه الظروف التي يمر بها العالم ينبغي أن يتفطن المسلمون – إن في العالم الإسلامي وإن في هامشه وهو الوجود الإسلامي في الغرب – إلى رسالتهم في أن يضفوا على العولمة السمة الإنسانية الإسلامية, والعمل على أن تكون في إطار أخلاقي عالمي مشترك, ومنعها من التفرعن والنزعة الامبراطورية الرومانية وما إلى ذلك من وجود الاستبداد والفساد. ولا شك أن الشباب في العالم الإسلامي له قدرات وإمكانات وطاقة لا تقدر بثمن, وهي كفيلة إذا قامت بواجبها أن تشارك في توجيه صيرورة هذه العولمة العارمة, إذ ليست الحضارة الغربية هي نهاية الحضارات وخاتمة التاريخ كما يزعم بعض الكاتبين المنبهرين بانتصار الليبرالية الجديدة, وخمود الاتحاد السوفيتي وانحلاله.

ونحن نرى اليوم أن القوة تكمن في المعرفة, وأول آية نزلت في القرآن نبهت إلى القراءة والعلم والقلم الذي يؤوله بعض الباحثين اليوم بأنه الكمبيوتر, ولماذا لا ؟ إنه امتداد للقلم, والعالم الإسلامي اليوم هو ميدان الصراع بين موجات العولمة فيها الرابح والخاسر, ولكن يبدو أول وهلة أنه مرشح لأن يكون هو الخاسر, وهو الذي يدفع الثمن, فلا يوجد في بلد إسلامي مثل بنغلادش من أجهزة الكمبيوتر ما يوجد في بعض الجامعات الأمريكية.

اقتراح: إن قوة الحضارة الحقيقية إنما تكمن فيما يبدو في قوة قيمها الأخلاقية التي تسندها, وتطيل من عمرها, ولذلك فإن العولمة باعتبارها ظاهرة حضارية كونية تتطلب أخلاقيات عالمية تضامنية تحد من الانفراد بالسيطرة لثقافة واحدة. وتفاديا للصراع بين الثقافات, وذلك بإيجاد ميثاق أخلاقي جديد مشترك ينظم جوانب العولمة المختلفة الاقتصادية والثقافية.

هذا من الجانب العالمي, وأما من الجانب المحلي فإن البلاد النامية مدعوة لإحياء ثقافتها لتصبح ثقافة فعالة, تتفاعل مع الثقافات الأخرى أخذا وعطاءا مما يمكنها من أن تجد مكانا لائقا بين الثقافات الأخرى, بتطوير إنتاجها الثقافي وبوضع استراتيجية ثقافية إعلامية محكمة وإن في صورة إنتاج مشترك بين دول إقليم معين, كالإنتاج المشترك لدول الخليج مثلا الذي يوجد في الكويت, ويكون قائما على أسس عقلانية, وتخطيط واضح تسنده دراسة كافية, وتمويل ضروري, لأن الثقافة اليوم أصبحت صناعة قائمة بذاتها, ولأنه لا يمكن الدخول في العولمة دخولا فوضويا, الأمر الذي لا يعدو أن يكون مجرد اندماج وذوبان في أمواجه العاتية. ويدعم ذلك كله استراتيجية تربوية, هدفها تجديد ملامح المستقبل الذي يراد تحقيقه في الواقع, وأهم ما في الرصيد الثقافي عند المسلم هو قيمه الدينية التي تجعل منه إنسانا يدرك تاريخه, وذلك يتم في إطار فلسفة أخلاقية نشترك فيها مع غيرنا, وينبغي النظر إلى التربية الإسلامية في بعدها الحضاري, لا في بعدها الظرفي ولا في منظورها الجزئي, ويتم ذلك بإحداث تغيير شامل في الأهداف والوسائل الفعالة, والتقنية المعاصرة التي تكون الذهن النافذ والعمل المتقن, مما يمكن من تجاوز التخلف الذي ما يزال يجثم على المجتمعات الإسلامية. كما أن دعم التعلم مدى الحياة وتعميمه بوسائل الإعلام من أهم عوامل الوعي العام في المجتمع.ِ

Laisser un commentaire

Aucun commentaire pour l’instant.

Comments RSS TrackBack Identifier URI

Laisser un commentaire

  • février 2010
    L M M J V S D
    1234567
    891011121314
    15161718192021
    22232425262728
  • meteo au maroc

    meteo
  • أوقات الصلاة

  • سعر العملات العالمية بالدرهم

  • اخبار بورصة الدار البيضاء